فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} فيه ست مسائل:
الأولى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ المؤمنون} وهي أن الجهاد ليس على الأعيان وأنه فرض كفاية كما تقدّم؛ إذ لو نفر الكل لضاع مَن وراءهم من العيال، فليخرج فريق منهم للجهاد ولْيُقِم فريق يتفقهون في الدين ويحفظون الحريم، حتى إذا عاد النافرون أعلمهم المقيمون ما تعلّموه من أحكام الشرع، وما تجدّد نزوله على النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وهذه الآية ناسخة لقوله تعالى: {إِلاَّ تَنفِرُواْ} وللآية التي قبلها؛ على قول مجاهد وابن زيد.
الثانية هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم؛ لأن المعنى: وما كان المؤمنون لينفروا كافَّةً والنبيُّ صلى الله عليه وسلم مقيم لا يَنْفر فيتركوه وحده.
{فَلَوْلاَ نَفَرَ} بعد ما علموا أن النفير لا يسع جميعهم.
{مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ} وتبقى بقيّتها مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ليتحملوا عنه الدين ويتفقهوا؛ فإذا رجع النافرون إليهم أخبروهم بما سمعوا وعلموه.
وفي هذا إيجاب التفقه في الكتاب والسنة، وأنه على الكفاية دون الأعيان.
ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] [الأنبياء: 7].
فدخل في هذا من لا يعلم الكتاب والسنن.
الثالثة قوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ} قال الأخفش: أي فهلاّ نفر.
{مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ} الطائفة في اللغة الجماعة، وقد تقع على أقل من ذلك حتى تبلغ الرجلين، وللواحد على معنى نفس طائفة.
وقد تقدّم أن المراد بقوله تعالى: {إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة: 66] رجل واحد.
ولا شك أن المراد هنا جماعةٌ لوجهين؛ أحدهما عقلًا، والآخر لغة.
أما العقل فلأن العلم لا يتحصل بواحد في الغالب، وأما اللغة فقوله: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} فجاء بضمير الجماعة.
قال ابن العربيّ: والقاضي أبو بكر والشيخ أبو الحسن قبله يرون أن الطائفة هاهنا واحد، ويَعْتضِدون فيه بالدليل على وجوب العمل بخبر الواحد، وهو صحيح لا من جهة أن الطائفة تنطلق على الواحد ولكن من جهة أن خبر الشخص الواحد أو الأشخاص خبر واحد، وأن مقابله وهو التواتر لا ينحصر.
قلت: أنصّ ما يُستدلّ به على أن الواحد يقال له طائفة قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] يعني نفْسين.
دليله قوله تعالى: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] فجاء بلفظ التثنية، والضمير في {اقتتلوا} وإن كان ضمير جماعة فأقلّ الجماعة اثنان في أحد القولين للعلماء.
الرابعة قوله تعالى: {لِّيَتَفَقَّهُواْ} الضمير في {لِيتَفقَّهُوا}، {وَلِيُنْذِرُوا} للمقيمين مع النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ قاله قتادة ومجاهد.
وقال الحسن: هما للفرقة النافرة؛ واختاره الطبريّ.
ومعنى {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين} أي يتبصّرُوا ويتيقّنوا بما يُريهم الله من الظهور على المشركين ونُصرة الدين.
{وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} من الكفار.
{إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ} من الجهاد فيخبرونهم بنصرة الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأنهم لا يدان لهم بقتالهم وقتال النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار.
قلت: قول مجاهد وقتادة أبْيَن، أي لتتفقّه الطائفة المتأخرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفور في السرايا.
وهذا يقتضي الحثّ على طلب العلم والندب إليه دون الوجوب والإلزام؛ إذ ليس ذلك في قوة الكلام، وإنما لزم طلب العلم بأدلته؛ قاله أبو بكر بن العربيّ.
الخامسة طلب العلم ينقسم قسمين: فرضٌ على الأعيان، كالصلاة والزكاة والصيام.
قلت وفي هذا المعنى جاء الحديث المرويّ «إن طلب العلم فريضة» روى عبد القدوس بن حبيب: أبو سعيد الوُحَاظيّ عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النَّخَعِيّ قال سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» قال إبراهيم: لم أسمع من أنس بن مالك إلا هذا الحديث.
وفرضٌ على الكفاية؛ كتحصيل الحقوق وإقامة الحدود والفصل بين الخصوم ونحوه؛ إذ لا يصلح أن يتعلمه جميع الناس فتضيع أحوالهم وأحوال سراياهم وتنقص أو تبطل معايشهم؛ فتعيّن بين الحالين أن يقوم به البعض من غير تعيين، وذلك بحسب ما يسّره الله لعباده وقسّمه بينهم من رحمته وحكمته بسابق قدرته وكلمته.
السادسة طلب العلم فضيلة عظيمة ومرتبة شريفة لا يوازيها عمل؛ روى الترمذيّ من حديث أبي الدّرْدَاء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سلك الله به طريقًا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثةُ الأنبياء وإن الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا إنما ورَّثُوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر» وروى الدّارِميّ أبو محمد في مسنده قال: حدثنا أبو المغيرة حدّثنا الأوزاعيّ عن الحسن قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلين كانا في بني إسرائيل، أحدهما كان عالمًا يصلّي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير.
والآخر يصوم النهار ويقوم الليل، أيهما أفضل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل هذا العالم الذي يصلّي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير على العابد الذي يصوم النهار ويقوم الليل كفضلي على أدناكم» أسنده أبو عمر في كتاب (بيان العلم) عن أبي سعيد الخُدْري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي» وقال ابن عباس: أفضل الجهاد من بنى مسجدًا يعلم فيه القرآن والفقه والسنة.
رواه شُريك عن ليث بن أبي سليم عن يحيى بن أبي كثير عن عليّ الأزدي قال: أردت الجهاد فقال لي ابن عباس ألا أدلك على ما هو خير لك من الجهاد، تأتي مسجدًا فتقرئ فيه القرآن وتعلم فيه الفقه.
وقال الربيع سمعت الشافعي يقول: طلب العلم أوجب من الصلاة النافلة.
وقوله عليه السلام: «إن الملائكة لتضع أجنحتها» الحديث يحتمل وجهين: أحدهما أنها تعطف عليه وترحمه؛ كما قال الله تعالى فيما وصى به الأولاد من الإحسان إلى الوالدين بقوله: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} [الإسراء: 24] أي تواضع لهما.
والوجه الآخر أن يكون المراد بوضع الأجنحة فرشها؛ لأن في بعض الروايات «وإن الملائكة تفرش أجنحتها» أي إن الملائكة إذا رأت طالب العلم يطلبه من وجهه ابتغاء مرضات الله وكانت سائر أحواله مشاكلة لطلب العلم فرشت له أجنحتها في رحلته وحملته عليها؛ فمن هناك يَسْلَم فلا يحفى إن كان ماشيًا ولا يَعْيَا، وتقرُب عليه الطريق البعيدة ولا يصيبه ما يصيب المسافر من أنواع الضرر كالمرض وذهاب المال وضلال الطريق.
وقد مضى شيء من هذا المعنى في آل عمران عند قوله تعالى: {شَهِدَ الله} [آل عمران: 18] الآية، روى عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة» قال يزيد بن هارون: إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم؟.
قلت: وهذا قول عبد الرزاق في تأويل الآية، إنهم أصحاب الحديث؛ ذكره الثعلبيّ.
سمعت شيخنا الأستاذ المقرئ النحوي المحدث أبا جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بابن أبي حجة رحمه الله يقول في تأويل قوله عليه السلام: «لا يزال أهل الغَرْب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة» إنهم العلماء؛ قال: وذلك أن الغرب لفظ مشترك يطلق على الدلو الكبيرة وعلى مغرب الشمس، ويطلق على فَيْضة من الدمع.
فمعنى «لا يزال أهل الغرب» أي لا يزال أهل فيض الدمع من خشية الله عن علم به وبأحكامه ظاهرين؛ الحديث.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28].
قلت: وهذا التأويل يَعْضُده قوله عليه السلام في صحيح مسلم: «من يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدين ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة» وظاهر هذا المساق أن أوّله مرتبط بآخره. والله أعلم. اهـ.

.قال الخازن:

{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}
قال عكرمة: لما نزلت هذه الآية ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلوا عن رسول الله قال ناس من المنافقين.
هلك من تخلف فنزلت هذه الآية ومن كان المؤمنون لينفروا كافة.
وقال ابن عباس: أنها ليست في الجهاد ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين أجدبت بلادهم فكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد ويقبلوا بالإسلام وهم كاذبون فضيقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم فأنزل الله الآية يخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم ليسوا مؤمنين فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عشائرهم وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم إذا رجعوا إليهم فذلك قوله سبحانه وتعالى: {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم} وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه قال: كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه عما يريدون من أمر دينهم ويتفقهون في دينهم ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم ما تأمرنا أن نفعله وأخبرنا عما نقول لعشائرنا إذا انلطقنا إليهم فيأمرهم نبي الله صلى الله عليه وسلم بطاعة الله وطاعة رسوله ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة فكانوا إذا أتوا قومهم نادوا أن من أسلم فهو منا وينذرونهم حتى أن الرجل ليفارق أباه وأمه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما يحتاجون إليه من أمر الدين وأن ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ويدعوهم إلى الإسلام وينذرهم ويبشروهم بالجنة وقال مجاهد: إن ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفًا ومن الحطب وما ينتفعون به ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى فقال الناس لهم ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم تحرجًا وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} يبتغون الخير وقعد طائفة {ليتفقهوا في الدين} ليسمعوا ما أنزل الله: {ولينذروا قومهم} من الناس {إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} وقال ابن عباس: ما كان المؤمنون لينفروا جميعًا ويتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة يعني عصبة يعني السرايا ولا يسيرون إلا بإذنه فإذا رجعت السرايا وقد نزل في بعضهم قرآن تعلمه القاعدون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا إن الله قد أنزل على نبيكم من بعدكم قرآنًا وقد تعلمناه فمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم وتبعث سرايا أخرى فذلك قوله سبحانه وتعالى: {ليتفقهوا في الدين} يقول ليتعملوا ما أنزل الله على نبيهم ويعلموا السرايا إذا رجعت إليهم لعلهم يحذرون نقل هذه الأقوال كلها الطبري وأما تفسير الآية فيمكن أن يقال إنها بقية أحكام الجهاد ويمكن أن يقال إنها كلام مبتدأ لا تعلق له بالجهاد فعلى الاحتمال الأول فقد قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج للغزو ولم يتخلف عنه إلا منافق أو صاحب عذر فلما بلغ الله في الكشف عن عيوب المنافقين وفضحهم في تخلفهم عن غزوة تبوك قال المؤمنون والله لا نتخلف عن شيء من الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن سرية يبعثها فلما قدم المدينة وبعث السرايا نفر المسلمون جميعًا إلى الغزو وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده فنزلت هذه الآية فيكون المعنى ما كان ينبغي للمؤمنين ولا يجوز لهم أن ينفروا بكليتهم إلى الجهاد ويتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يجب أن ينقسموا إلى قسمين فطائفة يكونون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة ينفرون إلى الجهاد لأن ذلك الوقت كانت الحاجة داعية إلى انقسام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قسمين: قسم للجهاد، وقسم لتعلم العلم والتفقه في الدين، لأن الأحكام والشرائع كانت تتجدد شيئًا بعد شيء فالملازمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم يحفظون ما نزل من الأحكام وما تجدد من الشرائع فإذا قدم الغزاة أخبروهم وبذلك فيكون معنى الآية وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا يعني فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة للجهاد وقعد طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم الذين نفروا إلى الجهاد إذا رجعوا إليهم من غزوهم لعلهم يحذرون يعني مخالفة مر الله وأمر رسوله وهذا معنى قول قتادة.